الجريح
في منتصف الليل , بين يوم يودعه و أخر يستقبله , جالس في غرفته , منهك القوى,يتأمل قنينة الخمر الرخيصة التي تجرع
قبل قليل كل ما تحمل من قطرات النسيان النثنة , يحرق السيجارة تلو الأخرى , وقد تصاعد الدخان حتى اكتست الغرفة
غيمة هواء سام لا يطاق , ظل جالسا على أريكته البالية بين الثمالة و الصحوة وسط فوضى الملابس المبعثرة هنا و هناك,
و أسارير وجهه تنم عن جرح غائر في قلبه , وعيناه المطوقتان بسواد الخمر و السهاد مثبتتان على حذائه , لحضة سافر به
خياله على بساط الحلم و نشوة الخمر إلى الماضي الكئيب , ذكرى تستحق الرثاء.
كان ينثر الوعد بعد الوعد , و هي منتصبة أمامه بشفاه جامدة تسمع عباراته الحنونة التي تروي ضمأ روحها, وتفجر ينابيع
الحب من صخور شبابها, كان الخجل ينهال من محياها, و هي تسأله راغبة في استقراء ما يواريه من أحاسيس مرهفة :
هل أنت متأكد أنك تحبني و أنني فعلا أصلح لأن أكون زوجتك ؟ -
قليلا ههههههه -
و يغرق في الضحك, فيربد وجهها و يشتد وهج الحمرة على خديها, تنحني برأسها تاركة شعرها الأشقر يواري وجهها
الموشوم ببراءة ظاهرة, و لتخفف عن نفسها وعكة الطوق التي أسرها بها جرجرت لسانها متظاهرة بالغضب :
أنا لا أمزح معك أنا أتكلم بجد أجبني بلا مراوغة -
تناول وجهها بين يديه لحضة عاوده الإنتباه و زاوية فمها منحرفة من الإستياء المفبرك, و قال بنبرة هامسة :
أنت حياتي و الهواء اللذي أتنفسه لا أستطيع العيش من دونك و حتى إن عشت ستكون حياة رتيبة أسوء من الموت
أرادت أن تقول شيأ لكنها أحجمت, أدركت أنها فقدت السيطرة على على قلبها و مشاعرها, كانا يجلسان في مقهى
على شاطئ البحر بعيدا عن أعين الجواسيس من الجيران, الذين بدؤا مأخرا بتسريب أخبار عن جلساتهما الرومانسية,
كان عنق النادل الحسود يشرئب بدوره ليتلصص عليهما باستمرار, لكن ذلك لا يضرهما في شيء مادام لا يعرفهما,
بادرته بالسؤال قاطعة صمتا خيم فجأة :
عليك أن تتقدم لخطبتي حتى لا نبقى هكذا هاربين من أعين الناس و حتى أستطيع الإمساك بيدك أمام العالم-
و كلي فخر لأنك ملكي
أوافقك الرأي حبيبتي أظن أن الوقت قد حان لنكون عشنا وننجب أطفالا, سأحدد موعد الخطبة مع أمي و سنتزوج بعد -
الخطبة بشهر
يتذكر الأن بعد رحيلها قسمات وجهها البريئ و عيناها الخضراوان اللواتي تأتتان خديها الورديان في وهاد سحنتها البيضاء.
طواها الرذى عشية قبل الخطبة بيوم, ما أنجبت منه طفلا تهدهده و ما احتفلت رفقته بعرس, و لم يكتسي جسدها النحيل
بريق فستان الزفاف, لو درت أنه كتب لعجلات سيارة زائغة أن تلامس صدرها لما تزينت و خرجت لملاقات حبيبها
و هو الذي ألح عليها كعليم بمصيرها المحتوم .
لازال يتذكر ذلك اليوم المشؤم السيء الذكر, و إبر النذم تخترق جلده اه لو لم يطلب منها الخروج , عند زاوية الشارع
الكبير, أمام متجر الهدايا الفخم حيث كان من المرتقب أن يجدها في انتضاره لتختار خاتم الخطوبة الذي يناسبها, حضر ليجد
حشدا من المارة أحاط بها إحاطة الهالة بالقمر, أحس بحلم عمره ينصهر أمامه تمنى لو يسمع صوتها تناديه لتحكي له
تفاصيل موت غيرها, إقترب بخطى متسارعة و الناس يرددون "مسكينة فتاة شابة لا تستحق الموت في هذه السن المبكرة"
و أخرون يغمغمون {إن لله و إن إليه راجعون} إخترق الزحام و أسراب المارة حتى اقترب منها وهي ضاجعة
على الأرض مغطاة بستار أبيض مخضوب بدمائها العذراء , بجوار سيارة مهشمة الزجاج خالية من صاحبها الذي فر
خوفا من أهلها, بعدما أكد الشهود أنه صدمها بقوة في ممر الراجلين.
إقترب أكثر وانتصب على ركبتيه و نزع الغطاء عنها و يديه ترتعدان, مخلفا منظرا بشعا تنفر له الأعين و القلوب.
و قد تقيأت أحشائها على الطريق الذي كان الشاهد على جرائم عديدة إرتكبت في حق العديد من الأبرياء أمثالها,
إستدار الجمع لفضاعة المشهد, حدق في وجهها المشوه بإتقان و حضنها بين دراعيه بقوة حتى ارتوت ملابسه بدمائها
و التسقت بقميصه أجزاء من شعرها المبعثر مشكلا مشهدا يدمى له الفؤاد.
ولازال فمها ينز بالدماء حتى تقدم أحدهم لمواساته فاستجاب لعزائه, و انسحب إلى ضفة الشارع المنكوب, واسند الخد
طويلا في انتطار الشرطة و أهال من الدمع سيولا حتى تشكل على وجنتيه مسار رذاذ عينيه .
خمسة و عشرون عقدا انقضى على رحيلها, تحت إيقاع زغاريد النساء و عويل الأطفال, ملفوفة في كفن المنية, الذي
عوض برقع ألوان فستان عرسها, كانت ضحية إنسان أتقن بها رسم لوحة كئيبة على الشارع العام, هاربا تاركا الحشد
يتأمل فن المأساة على الطرقات .
عاد به خياله إلى غرفته المنسية, إلى أريكته البالية, جالسا في منتصف اليل, و صدى ضحكها و أسئلتها الملحة تنخر أنسجة
روحه و تأجج النار في حقول اشتياقه, ودمعه ينسكب تحت غيمة النيكوتين التي لم تمطره إلى وصبا و وجعا
تأليف حميد امحمدي : الجريح 2013