بلا ولا شي
- يجلس على أريكة منزله الأنيق ذو الأساس الخشبي العتيق المختار بعناية ودقة كي يعكس ذوق صاحبه العاشق المتيم بالتحف .
يمد يده على مفتاح المذياع و يديره على إذاعة رقمها (92.30) .. هو يعرفها تماما لأنه في كل يوم وعند الساعة السابعة مساءً يديره ليستمع إلى فقرة (فيروز) أو (الأسطورة الخالدة) كما يحب أن يسميها هو , هذه الساعة بالنسبة له مقدسة .. انتظاره لها يشبه انتظار مصلٍ سماع الأذان ليباشر صلاته .
- هيئته لا تدل أبداً على أن عمره خمس و أربعين سنة , بل تدل على أنه أصغر من ذلك بخمس سنين على الأقل , شعرٌ رمادي تتخلله خصل سوداء مصفف باهتمام واضح , و النظارة الطبية التي على عيناه و قوامه المتناسق و الرياضي , كل هذه الأشياء ساهمت في تدعيم نظرية أعوامه الأربعين .
"ليالي الشمال الحزينة .... ضّلي اذكريني .. اذكريني"
هذه الكلمات التي سمعها بصوت فيروز أغمضت عيناه بحركة لا إرادية و كأنها عزفت على أوتار ذاكرته و إعادته إلى سنين خلت .
"كلمات أغاني فيروز و صوتها دائماً يحملان ذكرى معينة لسامعهما"
يُفتح باب المنزل و تطلّ من ورائه شابة جميلة ملامحها الطفولية تدل على أنها في العشرين من عمرها , شعرٌ أشقر و مجعد , وجه يفيض بالحنان قوام نحيل و جميل على نحو آخاذ , هذه الصفات المجتمعة فيها تجعلها و كأنها لوحةً زيتيةً خطتها أصابع ماهرة .
تدخل غرفة الجلوس فتجد والدها ممداً على أريكته المعتادة , ترمي بنفسها إلى جواره و تطبع بشفتاها الصغيرتين قبلةً هادئةً و مليئةً بحب عظيم على خد والدها , و تعود لتنهض و تجلس على كرسيٍّ سحبته من جانب الأريكة ليصبح مقابلاً لها , و تقول لوالدها :
- مساء الخير
- مساء النور حبيبتي ... كيف حالك ؟
- بخير
و تصمت بخجل واضح , نظرةٌ منه إلى وجهها الطفولي الجميل ليجده مشعاً و أكثر نضارة عما عهده , يلي ذلك ابتسامة هادئة تدّل على أنه قد فهم سر هذا النور الآخاذ في وجهها , ينظر في عينيها و يسألها :
- قصة حب ؟!
يحمر وجهها خجلا و تخفض عينيها محاولةً الهروب من ذلك الموقف المحرج الذي زجت نفسها فيه , تردد قليلا ثم تقول بصوت خافت :
- أظن كذلك
- تظنين ؟ّ! بعد كل هذه الفرحة التي في وجهك ما زلت تظنين ؟! إذاً ماذا ستفعلين لو أنك تأكدتي ؟!
ضحكةً خفيفة تلت جملته السابقة حاول إخفاء ورائها سعادته البالغة و أكمل قائلاً :
- وكيف لك أن تتأكدي ؟!
- الإجابة عندك ...
- عندي أنا ؟ وما دخلي بالموضوع ؟! هل أنا من يعيش قصة الحب هذه أم أنت ؟
- أعرف أنه ليس لك علاقة , ما أعنيه هو أني أريد منك أن تساعدني كي أتأكد
يضحك بصوت عالٍ و كأنه سمع نكتة و يجيب بعدها بلهجة الدعابة :
- أساعدك ؟! و كيف ذلك ؟ مممم.. وجدتها .... أذهب للشاب و أسأله : هل تحبها لأبنتي ؟
تتغير ملامح الفتاة و يبدو عليها الإنزعاج من ضحكات والدها المتكررة بالإضافة إلى مزاحه الخاطئ التوقيت بنظرها , ثم تقول له بلهجة يملؤها الدلال دون أن تخفي إنزعاجها :
- أنا لم أقل ذلك , كل ما أريده أن اسألك بضعة أسئلة أظن من خلال أجوبتها سأصل للإجابة التي أريدها أنا
- ما قصتك ؟! تظنين ... تظنين , ألست متأكدة من شيء ؟!
تجيب هذه المرة بعصبية واضحة من طبقة صوتها العالية :
- بابا ... أرجوك توقف عن المزاح
مزاج ابنته الغاضب دفعه للضحك مرة أخرى , لكنه أخفى ضحكته بوضعه يده على فمه و قال :
- أعتذر ..
- من الأخر ... هل تريد أن تساعدني ؟
النبرة الغاضبة التي قالت بها جملتها السابقة ما هي إلا خدعة منها محاولة من خلالها استجرار عطفه , لأنها تدرك في قرارة نفسها أن غضبها هو من أكثر الأشياء التي تجعل والدها ضعيفاً أمامها .
يفكر هو في كلامها و يدخل في دوامة من الحيرة , هل يسمعها هي و يترك "فيروز" تغني وحدها و هو الذي تعود سماعها في هذا الوقت على مرّ الأعوام التي خلت و بتركيز كامل ؟!
أم يؤجل حواره مع ابنته لحين انتهاء الفترة الغنائية , و بذلك يكون قد ترك وحيدته ساعة كاملة غارقة في الحيرة , و هو يدرك تماماً هي في حالة صعبة , يدرك كم هي في حالة جميلة و صعبة , هذه الحالة التي وصفها هو في كتبه و روياته بأنها " الحالة الأروع التي تمر في حياة الانسان "
دائماً حاول البحث عن معانٍ و أشكالٍ جديدة للحب ليكتب عنها , حتى أنه كتب مرة في إحدى رواياته : "الحب هو الحجرة الأولى التي يجب وضعها في بناء انساني "
هو كاتب إذاً , قد يبدو ذلك جلياً من أساس منزله العتيق و الأنتيك و الذي أعدّ كي يبدو وكأنه مشهداً مسروقاً من إحدى الروايات التي ألفها أو قرأها
و قد يبدو ذلك جلياً أكثر من خلال مقارنته اللامنطقية بين الإستماع "لفيروز" أو الإستماع لابنته , لأن هذه المقارنة غالباً لا يقوم بها إلا أصحاب العوالم الخاصة , و طبعاً أصحاب هذه العوالم هم الأقدر على نقلها إلى كتب و روايات ... و هو واحد منهم إذاً .
أنهى صراعه الطريف مع الذات بقوله و لذاته أيضاً : إنها تعاني مرض الحبّ , نفس المرض الذي ابتليت به أنا منذ أكثر من عشرين عاماً .
نظر في عينيها اللتان تلمعان و ترجفان في آن معاً و اللتان ساعدتاه على حسم أمره و قال :
- أوكلت أمري إلى الله , أسألي و سوف أحاول جاهداً أن أجيبك بكل صراحة .
تبتسم هي سعيدةً بموافقته أخيراً , و دون أن تضيع أي ثانية تقول له :
- هذا ما أريده , أن تجيبني بصراحتك المعهودة ... بابا هل لك أن تحدثني عن حبك الأول ؟
كلمة حبك الأول هذه جعلته يشعر بلهفة غريبة تسري في داخله مضافاً إلى هذه اللهفة خفقان شديد في قلبه .
صوب نظراته نحو الحائط و كأن هذا الحائط عبارةٌ عن شاشة سينما يعرض عليها فيلم حياته بطريقة سريعة جداً :
- بابا ... بابا ... أمازلت هنا ؟!
هذه الكلمات هي التي أيقظته من شروده , لملم ضياعه بقوله :
- طبعاً أنا هنا , أين سأكون غير هنا ؟
حسّ الدعابة فارقه فجأة , و اكتسته جدّية لا مبرر لها , حتى نظراته لم تسلم من حالته الجديدة , فأصبحت جدية و صارمة أكثر , رسم على وجهه ضحكة مصطنعة إلى أبعد الحدود و قال :
- حبّي الأول ...
و عاد ليرسم على وجهه ضحكة جديدة يميزها عن سابقتها بأنها حقيقة و صادقة , صاحبها تحريكتين لرأسه يميناً و شمالاً وعاد ليكمل كلامه قائلاً :
- هل تعلمين أنك أعدتني بالذاكرة إلى أكثر من عشرين سنة إلى الوراء ؟ القصة يا عزيزتي بدأت في أحد الأيام عندما كنت جالساً في المقهى , تعرفينه "مقهى خبيني" , و كعادتي كنت غارقاً في الكتابة , فجأة يدخل المقهى فتاتين , تختاران طاولة و تجلسان عليها .
الغريب في الموضوع أنه في تلك الأيام كان من المستهجن دخول الفتيات إلى المقاهي الشعبية , رواد المقهى أخذوا يتبادلون النظرات مستغربين جرأة هاتين الفتاتين أو كما يسموها بلغتهم "وقاحة" , أظن أنها كانت جرأة و لكنها لم تكن وقاحةً أبداً , فهما جلستا بكل أدب و احترام حتى ملابسهما لم يكن بها أي خدش للحياء .
لا أنكر بأن عيناي أيضاً كانتا معلقتا بهما , لأنني أنا أيضاً كنت مستغرباً جرأتهما حتى أن أذناي كانتا تنصتان لكل كلمة تقولاها , و بعد دخولهما بدقائق نهضت إحداهما و قالت لصديقتها بأنه ذاهبة إلى سوق الحميدية لتبدل غرضاً كانت قد اشترته و أكدت أنها لن تغيب أكثر من ربع ساعة و مضت .
الفتاة الثانية التي بقيت منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها إلى المقهى سربت شعوراً غريباً إلى داخلي , شعرت بأني أعرفها مسبقاً , و بأني ألتقيت بها في مكان ما , مكان خارج حدود الزمان و المكان , الأصح هو أني ألتقيت بها في اللامكان , مشاعري عواطفي أحاسيسي و حتى روحي كلها كانت ترسم على طريقة جبران خليل جبران في رائعته"الأجنحة المتكسرة" بقيت نظراتي معلقةً بها إلى أن حدثت المفاجأة أو الصدفة أو ربما القدر , ما حدث حينها هو أنها أخرجت من حقيبتها كتاب "الأجنحة المتكسرة" نفس الكتاب الذي كنت أفكر فيه قبل ثوان , يالها من مصادفة غريبة من فتاة بدت و كأنها تجيد قراءة الأفكار , أدركت أن القدر هو من يلعب ويتحكم بنا و بهذا يجب عليّ أن أجاريه و أساعده في تتمة ما بدء هو به , نهضت من مكاني مستجمعاً كل ما لدي من قوة و توجهت إليها و بادرتها قائلاً :
- كتاب رائع , لكاتب أروع
ضحكت و قالت :
- طبعاً ... جبران انسان عظيم
يالها من ضحكة آخاذة جعلتني أشعر و كأنني أقف أما "الخليل"(1) , جعلتني أشعر بأن الكون قد توقف عن الدوران و ثبّت نظراته عليها ليرى كم هي جميلة هذه الضحكة , أقسم لو أن صناع الأساطير رأوها لخلودها على أنها الأسطورة الأجمل في التاريخ , قد تظنين يا عزيزتي بأني أبالغ , لكن الحقيقة هي العكس , كل ما قلته لا ينصفها و لا يعطيها من حقها إلا القليل لا يمكن لكتاب الأرض إلا أن يقفوا عاجزين أمام سحرها "الأدب و الشعر و اللغة أعلنوا استسلامهم أمامها"
- هل يمكنني الجلوس ؟
هذا ما قلته دون أن أفكر في الموقف المحرج الذي سأكون فيه في حال رفضت
- طبعاً ... قالتها دون أن تخفي ضحكتها السابقة
كنت محتاراً و مرتبكاَ ولا أعرف كيف و من أين سأبدأ الحديث , أول ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): الخليل : أحد أسماء آلهة الحب و الجمال من التراث الكنعاني
بادر إلى ذهني هو أن أسألها لماذا اختارت أن تجلس في هذا المقهى الذي لا يجلس على كراسه فتاةً غيرها و غير صديقتها , مفاجأة أخرى حملتها لي إجابتها على سؤالي , أجابتني بقول لأبي الدرداء :
"ما نتقبله اليوم كان مستهجناً في ما مضى , و ما نستهجنه اليوم سيكون مقبولاً في زمان سيأتي" .
هذا القول لطالما اعتبرته من أروع الأقوال التي سمعتها , توقف أيها القدر كفاك عبثاً بي , ما هذا المخطط المحكم الذي جئت إلي به ؟ تلك الجمل هي ما كان يدور في خاطري لحظة سماعي لإجابتها , قطعت هي الصمت الذي دار لثوان بقولها :
- أنت كاتب أليس كذلك ؟
- لا أصدق ... كيف عرفت ؟
- لست أنا من عرفت , حدسي هو من خمن بأنك كذلك
- ياله من حدس قوي , و ماذا يقول لك أيضاً ؟!
- في اللقاء القادم سأقول لك , أليس هذا ما تريده ؟ أستطيع أن أجزم بأنك تريد لقائي ثانيةً .
عجزت تماماً عن الكلام من هول ما قالته , و ثانيةً قطعت هي الصمت و قالت :
- غداً .. الساعة السادسة في ساحة باب توما ما رأيك ؟
- موافق طبعاً ... سأنتظره بفارغ الصبر
بعد أن أرجعت كتابها إلى مكانه مدت يدها مصافحة و مودعة و غادرت إلى صديقتها التي كانت تنتظرها على باب المقهى , غادرت دون أن تترك أي أثرٍ على أنها مرّت بهذا المكان فهي لم تشرب لا شاياً و لا قهوةً و لا أي شيء أخر , الأثر الوحيد الذي تركته كان عليّ أنا , لقد أدهشتني و حيرتني و أغرقتني بتساؤلات لا يمكنني حصرها .
هل كنت أجلس أمام الله ؟ّ! أم هي إحدى ملائكته أو رسله ؟! أو أنها بشرٌ أوكل لها الله سره ...
كثيرة هي التساؤلات و غداً سأعرف كل الإجابات , تعال أيها الغد , لا أطيق انتظارك أبداً .
- بابا .... توقف هنا , سأذهب لأعد فنجانين من القهوة و بعدها سنكمل , على فكرة لا رغبة لي الأنتظار لأعرف البقية , إلا أنني أشعر بأنك بحاجة لترتاح قليلاً . - أصبت يا عزيزتي ... حقاً أنا بحاجة إلى دقائق لأرتاح .
توجهت مسرعةً إلى المطبخ لتعد القهوة , بينما هو اتجه إلى مكتبه و أخذ يبحث بين أوراقه عن ورقة كتبها قبل حوالي ثلاثةً و عشرين عاماً , دقائق مضت قبل أن يجدها و يعود بها إلى الأريكة التي كان مستلقياً عليهاً , لم يرفع عيناه عن الورقة إلا عندما جاءت ابنته بالقهوة , جلست و اعطته فنجانه و قالت :
- يمكنك أن تكمل الآن ... توفقنا عند اللقاء المرتقب بينكما في اليوم التالي
أعطاها الورقة التي كانت بين يديه و طلب منها أن تقرأها
- ما هذه ؟!!
- هذه الكلمات التي كتبتها بعد ذهابها فوراً
نظرت إلى الورقة لثوان , و أعادتها له و قالت :
- هل لك أن تقرأ أنت ؟؟ اشتقت لتلك الأيام التي كنت تقرأ لي بها ... منذ سنوات لم تفعلها ..
ضحك ملياً و قال :
- حاضر ... و لنرى إلى أين ستصلين بنا في الآخر ...
ثوان قليلة أمعن فيها النظر إلى الورقة قبل أن يبدء ... و قرأ بعدها :
"لست متأكداً من طريقة التقائنا معاً في هذه الدنيا الغريبة , أنا محتار تماماً و مرتبك .... أهي الصدفة ؟؟ أم هو القدر ؟؟ أم أنهما اجتمعا معاً ليكون كل شيء مرتب هنا حيث لا يمكننا أن نستبعد أي احتمال ؟ لكن و بكل الأحوال أنا متفائل بكل ما لدينا لنعيشه معاً في عالمنا الغريب ذاته . منذ اللحظة الأولى التي ألتقيتك بها ألهمتني الكلمات و الأفكار و هذا أمرٌ لا يمكنني أن أجده بسهولة أبداً ... و ما عليك أنت سوى أن تتفائلي معي بما سيحمله لنا القدر بما أنه هو الاحتمال المرجح لطريقة ألتقائنا ."
دمشق - مقهى خبيني
- يالها من كلمات .. كالعادة عبقري في كتاباتك , و لكن لماذا لم ترني هذه الورقة من قبل ؟؟
- ههه , لم تأت الفرصة المناسبة
كان الأجدر به أن يعترف بأن أخفاها قاصداً محاولاً إلغاؤها من ذاكرته , طوال السنين التي مضت أراد أن ينسى و كان يظن بأنه قد نجح , لم يتوقع يوماً أن تأتي ابنته و تذكره بكل شيء .
"إنه القدر ثانيةً يعود ليعبث به , ياله من عابث" .
- و ماذا حصل بعد ذلك ؟ هل ألتقيتها ؟!!
- أتى الغد , وصلت إلى الموعد قبل عشرة دقائق , كم تمنيت لو أنها هي أيضاً فعلت كي أكون معها لدقائق إضافيات , إلا أنها لم تفعل , نظرت إلى ساعتي التي أشارت إلى السادسة تماماً رفعت رأسي لأراها متجسدة أمامي قالت هي أولاً :
- على الموعد تماماً ... أهمية الوصول على الموعد مرتبط بأهمية الشخص الموعود
- أنا مهم ؟!!
- لو لم تكن كذلك لتأخرت , أو حتى لما أتيت أبداً
- يالك من متحدثة بارعة .. قبل أن نكمل إلى أين تريدين أن نذهب ؟؟
- أقترح مقهى عالبال
- لا أصدق .... إنه نفس المكان الذي كنت سأقترحه
- أعرف ...
- كيف ؟؟!
- لن أجيبك بأنه حدسي لأنني سأكون كاذبة , و تكفيني كذبة واحدة كذبتها عليك ... عندما نصل إلى المقهى سأخبرك كيف عرفت , و سأخبرك أيضاً بالكذبة ... اتركني الآن أريد استمتع بجمال هذه المدينة القديمة .
- تريديني أن أصمت إذاً ؟؟!
- لا , بل أريدك أن تنصت لكلمات حجارة و أرصفة هذا المكان
سكت فوراً و فكرت بكلماتها , الجملة الأخيرة التي قالتها استخدمتها نفسها في روايتي الأولى "حنين" , وهاهي تقولها نفسها الآن ؟؟ و لكن كيف ذلك ؟؟ إنها تحاصرني من كل مكان و تجعلني مستسلماً أمامها دون أية مقاومة تذكر ..... المهم, وصلنا القهى و جلسنا , اذكر تماماً بأنها هي من نادت النادل و طلبت منه فنجانين من القهوة السادة, ضحكت متسغرباً و قلت لها :
- و ما أدراك بأني أريد قهوة ؟؟ لا تقولي لي بأنه حدثك لأنني قطعاً لن أصدقك .
- لا ... إنه أمر بديهي , أنتم المثقفون لا تجيدون سوى شرب القهوة السادة أو المشروبات الكحولية , و كون هذا المقهى لا يقدم الكحول فأنت حتماً ستشرب قهوةً سادة ... أليس كذلك ؟؟
ضحكت من فوري و قلت لها :
- نعم هو كذلك ... كفاك مفاجأت الآن و قولي لي كل شيء
- من أين تريدني أن أبدأ ؟؟
- من حيث تريدين ... المهم أبدأي
- طيب طيب ... سأبدأ من الكذبة , صراحةً ليس حدثي من أرشدني بأنك كاتب و أنما جريدة كتبت مقالاً عن روايتك الأولى مرفقة هذا المقال بصورة لك و عندما رأيتك في المقهى عرفتك فوراً ...
- هكذا إذاً ... أنت تحتالين علي ؟؟
- ليس احتيال , و إنما دعابة لأجعلك تغرق في دوامة الحيرة
- نجحت ... حقاً نجحت , و ما قصة اختيارك للمقهى ؟؟
- لأنه يضع اسطوانات فيروز على مدار الساعة
- و ما علاقة فيروز ؟!
- ألست أنت من وصفها بأنها "الأسطورة الخالدة" , و أنت أيضاً من جعلت من بطل روايتك لا يمل من سماعها .
- اذا ... أفهم من كلامك أنك قرأت الرواية ؟
- نعم قرأتها , و منها أيضاً اقتبست قولي لك في طريقنا إلى هنا "أريدك أن تنصت لأرصفة و حجارة هذا المكان"
- أنت محتالة بارعة , أمضيت الطريق أفكر بهذه الجملة , طيب هل لي أن أسألك رأيك بالرواية ؟
- صراحةً ... و من دون أن تزعل مني , لم تعجبني نهايتها
- لماذا ؟
- لأني أكره النهايات الحزينة , و روايتك نهايتها فاجعة , مدمرة , صادمة و هذا النوع من النهايات لا يستهويني أبداً و يجعلني أحكم بسلبية على الرواية بأكملها .
- و لكن الحياة بنظري و بشكل عام طبعاً لا تحوي نهايات سعيدة
- بلى ... إنها مليئة بنهايات سعيدة , إذا وضعنا نصب أعيننا النهاية التي نريدها أن تكون سعيدة فستكون كذلك , تأكد تماماً بأن قراراتنا هي من يصنع نهاياتنا , و بهذه الطريقة أرى أن بطلك لو قرر ترك النشاط السياسي لما آل به الحال إلى ما انتهى عليه .
- كلام جميل , لكنه لم يقنعني لعدة اعتبارات ...
- بغض النظر عن اعتبارتك , سترى كيف أن الأيام ستقنعك بصحة كلامي و تذكر ذلك جيداً .
قاطعت الفتاة والدها عن تتمة القصة قائلة :
- كيف لم تنس ما دار بينكما من حوار على الرغم من كل هذه السنين التي مضت ؟
- يا ابنتي ... لا يمكنني أن انسى , إنها بارعة بكل كلمةً تقولها , لو أنك قابلتها لعرفت ما أقصد , إنها تلعب بالكلمات لتجعلها تحفر في قلبك و أفكارك و ذاكرتك
- أظن أنك تبالغ .. على جميع الأحوال هل لك أن تكمل من فضلك ؟
- لا ..... أنا لم أبالغ أبداً ... المهم يا عزيزتي , أكملنا حديثنا في الأدب و الروايات و أخذنا ننتقل من حديث إلى آخر , و دون أن نشعر وجدنا أنفسنا لوحدنا في المقهى ... خمس ساعاتٍ مضت شعرت بأنها دقائق , قالت لي بأنها تأخرت و عليها أن تعود إلى منزلها , فطلبت الحساب و دفعت , قالت لي بعد أن رفضت أن نقتسم الفاتورة :
- غريبون أنتم أيها الرجال الشرقيون ... تنصبون أنفسكم كمسؤلين عم المرآة , ما المبرر المنطقي لهذه التصرفات ؟؟
لم أستطع إخفاء ضحكتي حينها , و أجبتها قائلاً :
- ليس القصة كما تظنين , أنا دفعت لأنها المرة الأولى التي نكون بها معاً , و أعد في المرة القادمة سنقتسم الحساب
- أفهم من كلامك بأنك تخطط للقاء آخر ؟؟
- نعم , ألا يحق لي أن أطلب منك لقاء آخر ؟
أخرجت ورقة و قلماً من محفظتها و طلبت مني أن أسجل رقم هاتفي و قالت بأنها ستتصل بي لترتب للقاء القادم .
مضت أيام قبل أن تتصل , خلال هذه المدة لم أفارق المنزل أبداً , كل ما كنت أفعله هو البقاء بجانب الهاتف و الانتظار , لا أخفيك يا ابنتي أنني كنت خائفاً بأن لا تتصل ثانيةً , خفت بأن أكون قد فشلت في استهوائها في لقائنا الفائت , زالت كل مخاوفي و شكوكي باتصالها بعد مضي أربعة أيام كلمة "ألو" التي قالتها أخرجت روحي من مكانها و طارت بها إلى عالم آخر , و كعادتها دائماً قطعت الصمت بقولها :
- الأستاذ "ياسر" موجود ؟
- نعم ... أنا الأستاذ "ياسر" ... اشتقتُ لك
- ماذا ؟
- آآ ... أقصد انتظرت اتصالك طويلا
- اعذرني .. فقد كنت مشغولة قليلاً
- سأعذرك إذا سمحت لي بأن ألقاك اليوم ...
- اليوم ؟!
- نعم اليوم .. ما رأيك ؟؟
- طيب .... موافقة , الساعة الآن الحادية عشرة , ألقاك بعد ساعة في نفس المقهى "عالبال"
- ممتاز ... لن أتأخر
- وداعاً
- وداعاً
و التقينا ثانية و لم يختلف هذا اللقاء عن سابقه , كان مليئاً بالمفاجأت أيضاً
إلا أنه كان رائعاً و عظيماً و حميمياً أكثر من الذي سبقه , اذكر بأنه حمل لي مفاجئتين ... الأولى أغنية فيروز "ليالي الشمال" التي ما أن سمعناها حتى قلنا معاً و في نفس الثانية :
- إنها المفضلة لدي ...
نظرنا في أعين بعض و أخذنا نضحك ... يا الله ما أجمل هذه الضحكة التي رأيتها ... دائماً تأسرني بضحكتها
- و المفاجأة الثانية ؟؟ هذا ما قالته الفتاة لوالدها
- المفاجأة الثانية يا عزيزتي هزتني و هزت كياني و جعلتني أنقم على الله و على منطق الألوهية كاملاً .
- إلى هذا الحدّ ؟؟ ما هو الشيء الذي قد يفعل ذلك ؟
- الشيء الذي حصل هو أنها بعد وقت من وصولها خلعت معطفها و رأيت رقبتها البيضاء الناصعة لأول مرة ....
- و ما المفاجأة في ذلك ؟ قالت جملتها و هي تضحك
- المفاجأة كانت الصليب الذي يملؤ رقبتها , صليباً أحسست لحظة رؤيته بأن روحي تتكسر أمامه , و أن علاقتنا سنقدمها كقربانٍ على مذبحه , نحن لم نختر أن نكون من أدياناً مختلفة , الأديان هي من اختارتنا .
"الحب الذي يطرق بابنا فجأة لا دين له"
هذه كانت قناعتي , وأنا مستعدٌ للتضحية بكل شيء لأكمل هذا الطريق الذي بدأنا إلى آخره , و لكن هي ... ما قناعتها هي ؟؟ هل ستتركني عندما تعلم بأني من دين آخر ؟!!
هنا سقطت دمعتان على خدي الفتاة و قالت :
- أبي .. أنت تتحدث عن ....
- نعم يا ابنتي أنا أتحدث عن أمك ... أمك التي لم تعرفينها أبداً , أمك التي جاءت بك و ذهبت , أمك التي واجهت الكون لكي نكون معاً , أمك التي اختارها القدر للذهاب مبكراً و تركي وحيداً , منذ اللحظة التي فارقت فيها الحياة و أنا وحيد , ولولا وجودك أنت التي تشبهينها في كل شيء لانتهيت أنا الآخر منذ لحظة نهايتها .
والدتها لم تكن بالنسبة لها أكثر من مجرد لوحة يقطعها خط أسود معلقة على جدار الغرفة , و كانت بالنسبة له قصةً و رحلةً و رفيقةً و زوجةً صورتها معلقة على جدار قلبه ... هي التي قالت بأن النهايات السعيدة كثيرة , و هي التي ظنت بأنها صنعت نهايةً سعيدةً باختيارها أن تواجه المعتقدات لتكون مع الشخص الذي أحبته , أما القدر الذي كان طرفاً ثالثاً في القصة منذ بدايتها اختار أن تكون النهاية حزينة كما هي حال رواياته , حقاً "نهاياتنا تصنعها قراراتنا" و لكن هناك نهاياتٌ لا تنظر إلى قراراتنا مهما كانت جريئة و خطيرة .
هذه الكلمات لم تفارقه منذ اللحظة التي فارقت فيها حبيبته الحياة . جو من الصمت و السكون يخيم على الجلسة , و لم يستطع هو إخفاء الدموع التي بدأت تنهمر من عينيه دون أن يحدث أي صوت .
كلمات أغنية زياد رحباني "بلا ولا شي ... بحبك ... بلا ولا شي .." رفعت نظراته لتعلق على اللوحة المثبتة على الحائط سارحاً في صمتها الأبدي دون أن تتوقف عيناه عن البكاء .
دمشق 18-11-2011